آخر ما كان يمكن توقعه، أن ينتقد الأميركيون الإجراءات الصحية لبلد أوروبي. هذا ما حدث حين قال مدير المعهد الوطني للأمراض المعدية والحساسية في الولايات المتحدة أنتوني فاوتشي إن بريطانيا تسرعت في إعطاء لقاح شركة “فايزر” لفيروس كرونا الموافقة، الأربعاء.
لكن الحقيقة، أن بريطانيا لم تعد “بلدا أوروبيا” منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) مطلع العام، لذا، سارعت حكومة حزب المحافظين برئاسة بوريس جونسون للإعلان عن تصريح السلطات الصحية بلقاح “فايزر” في أول يوم بعد نهاية فترة الإغلاق العام للحد من انتشار فيروس كورونا في الموجة الثانية.
ولأن المتشددين لصالح البريكست في الحكومة يريدون إيصال رسالة للشعب البريطاني أن هذه أول فوائد الخروج: عدم الالتزام بالقواعد الأوروبية في المجال الصحي وأن قرارنا أصبح بيدنا، ذلك أن القواعد الأوروبية تقليديا تقضي بعدم التصريح لأي دواء أو مستحضر طبي توافق عليه السلطات الأميركية مثلا (هيئة الأغذية والأدوية-سي دي سي) إلا بعد مرور عام أو عامين على استخدامه، للتأكد من صلاحيته وعدم وجود أضرار جانبية. فالحكمة التقليدية أن “سي دي سي” تعطي الموافقات أحيانا لاعتبارات تتعلق بالبزنس أكثر منها بمعايير الصحة العامة.
أرادت بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي أن تكون “أول” دولة تصرح بلقاح، ولولا أن لقاح جامعة “أوكسفورد” الذي تطوره شركة “أسترازينيكا” ظهرت مشاكل واضحة في تجربته الأخيرة لكانت السلطات البريطانية أقرته بسرعة واعتبرته “لقاح بريكست”. طبعا لو لم يعلن عن مشاكل لقاح “أوكسفورد” لكان هو الأفضل لبريطانيا، لأن لقاح “فايزر” ما زال ينتج في أوروبا وتنقله الشاحنات من مصانع الشركة في بلجيكا إلى بريطانيا، وهو ما يمكن أن يتعطل إذا لم يتم التوصل لاتفاق بريكست قبل 31 ديسمبر وخرجت بريطانيا نهائيا من أوروبا من دون اتفاق.
تهليل البعض في حكومة جونسون للقاح بريكست، وأفعل التفضيل البريطاني كأول مصرح بلقاح، عبر عنه وزير التعليم في سقطة حاولت الحكومة إصلاحها، حين قال في مقابلة إذاعية إن البريطانيين أفضل من الأوروبيين (أفضل من الفرنسيين) والأميركيين. وهكذا تجد الروية والتعقل البريطاني، والحكمة البيروقراطية التقليدية، وقد تبخرت تماما مع لقاح بريكست.
لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة، أو حتى الاتحاد الأوروبي، لن تقر لقاح “فايزر”، وربما غيره من اللقاحات لفيروس كورونا بسرعة. على العكس، يتوقع أن تتوالى التصريحات من السلطات الصحية للقاح “فايزر” وغيره خلال أسابيع وربما أيام. فهل هناك تسرع؟ وهل يؤثر ذلك؟
نعم، فمنذ بداية انتشار وباء فيروس كورونا (كوفيد 19) مطلع العام والعلماء والباحثون يسرعون كل العمليات في محاولة لاحتواء الوباء غير المسبوق، وفي عملية التسريع يتم ابتكار آليات جديدة وليس فقط “حرق مراحل” العمليات البحثية والطبية التقليدية، وأفاد ذلك حتى الآن في الحد من الأضرار الناجمة عن وباء فيروس كورونا التي كان يمكن أن تكون أكبر مما هي عليه الآن بكثير.
لكن المشكلة من البداية كانت “تسييس” التعامل مع الوباء، وهو ما انسحب أيضا على البحث العلمي والطبي الذي لم يسلم من التسييس وربما “البزنسة”. لكن ذلك لن يكون تأثيره كبيرا على مسألة تطعيم مئات ملايين البشر حول العالم باللقاحات، وبالتالي بداية احتواء وباء فيروس كورونا.
وستظل الجماعات الصغيرة التي تتردد في أخذ اللقاح هي تلك التي أثرت فيها نظريات المؤامرة والدجل غير العلمي والخرافات المتعلقة بالتطعيمات عموما، لكن الغالبية العظمى من البشر مقتنعة بأهمية التطور العلمي والطبي، وكيف أن اللقاحات حمت البشرية من أمراض مثل الدرن وشلل الأطفال وغيرها.
يظل خطر التسييس في مواجهة الوباء مؤثرا بالطبع، خاصة أنه مهما كان التطور العلمي والبحثي فإن اللقاحات التي تم تطويرها بسرعة لم تختبر كل جوانب فعاليتها. وهنا لا يمكن تجاوز معايير لها علاقة بالوقت.
فحتى الآن ليس محسوما إن كان التطعيم بلقاح فيروس كورنا سيكفي للوقاية لمدة طويلة أم علينا أن نتطعم به كل فترة، وبغض النظر عن اختفاء الأجسام المضادة من الجسم بعد أشهر قليلة، فإن خلايا “جرس الإنذار” التي يولدها اللقاح وتظل في الجسم مدة أطول لتنبيهه لينتج الأجسام المضادة عند الإصابة بالفيروس لا يعرف مدة بقائها. وهذا ما سيتضح بعد سنوات.
كذلك، لا يعرف بعد مدى استجابة الأجسام المختلفة للقاح من ناحية فاعليته في الوقاية من أن تؤدي الإصابة بالفيروس إلى تعقيدات صحية كبيرة.
كل هذا سيظهر فيما بعد، ولا يمكن تجاوزه بأي تسريع علمي وطبي، لكن الخطر أن تتدخل السياسة أكثر فتعيق جدية البحث العلمي، على طريقة تكرار لقاح بريكست بلقاح ترامب أو لقاح بوتن وما شابه.